- وقال أيضاً:
لو ناسبت قدره آياته عظماً أحيا اسمه حين يُدعى دارس الرمم
يقول بعض شرّاح هذه القصيدة:
(لو ناسبت آياته ومعجزاته عظم قدره عند الله- تعالى- وكل قربه وزلفاه عنده لكان من جملة تلك الآيات أن يحيي الله العظام الرفات ببركة اسمه وحرمة ذكره) (3).
يقول الشيخ محمود شكري الآلوسي منكراً هذا البيت:ولا يخفى ما في هذا الكلام من الغلو؛ فإن من جملة آياته r القرآن العظيم الشأن؛ وكيف يحل لمسلم أن يقول: إن القرآن
لا يناسب قدر النبي r ، بل هو منحط عن قدره (ثم إن اسم الله الأعظم وسائر أسمائه
الحسنى إذا ذكرها الذاكر لها تحيي دارس الرمم ؟) (1)
.
5 – وقال أيضاً:
لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه طوبى لمنتشق وملتثم
فقد جعل البوصيري التراب الذي دفنت فيه عظام رسول الله r أطيب وأفضل مكان، وأن الجنة والدرجات العلا لمن استنشق هذا التراب أو قبَّله، وفي ذلك من الغلو والإفراط الذي يؤول إلى الشرك البواح، فضلاً عن الابتداع والإحداث في دين الله- تعالى-.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله-
واتفق الأئمة على أنه لا يمس قبر النبي r ولا يقبله، وهذا كله محافظة على التوحيد) (2).
6 – ثم قال:
أقسمتُ بالقمر المنشق إن له من قلبه نسبة مبرورة القسم
ومن المعلوم أن الحلف بغير الله - تعالى- من الشرك الأصغر؛ فعن عمر بن الخطاب t
أن رسول الله r قال: p من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك i (3) . وقال ابن عبد البر- رحمه الله-: لا يجوز الحلف بغير الله - عز وجل- في شيء من الأشياء ولا على حال من الأحوال، وهذا أمر مجتمع عليه … إلى أن قال: أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها، لا يجوز الحلف بها لأحد) (4).
7- قال البوصيري:
ولا التمست غنى الدارين من يده إلا استلمت الندى من خير مستلم
فجعل البوصيري غنى الدارين مُلتَمساً من يد النبي r ، مع أن الله- عز وجل- قال:
} وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ { ] النحل:53 [ ، وقال- سبحانه-
: } فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ { ] العنكبوت:17 [ ، وقال- تعالى- : } قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ { ] يونس:31 [ ، } قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ { ] سبأ:22 [ .
وأمر الله نبيه محمداً r أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة المذكورة في قوله - تعالى- : } قُلْ
لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ { ] الأنعام:50 [ .
8- قال البوصيري:
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم
وهذا تخرُّص وكذب؛ فهل صارت له ذمة عند رسول الله r لمجرد أن اسمه موافق
لاسمه ؟! فما أكثر الزنادقة والمنافقين في هذه الأمة قديماً وحديثاً الذين يتسمون بمحمد!
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله - تعقيباً على هذا البيت
قوله:فإن لي ذمة… إلى آخــره كـذب علـى الله وعلى رسوله r ، فليس بينه وبين اسمه محمــد ذمة إلا بالطاعة، لا بمجرد الاشتراك في الاسم مع الشرك) ( 1 ).
فالاتفاق في الاسم لا ينفع إلا بالموافقة في الدين واتباع السنة (1).
9- وقال البوصيري:
إن لم يكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
والشاعر في هذا البيت ينزل الرسول منزلة رب العالمين؛ إذ مضمونه أن الرسول r هو المسؤول لكشف أعظم الشدائد في اليوم الآخر، فانظر إلى قول الشاعر، وانظر في قوله
- تعالى- لنبيه r : } قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ { ] الزمر:13 [ .
ويزعم بعض المتعصبين للقصيدة أن مراد البوصيري طلب الشفاعة؛ فلو صح ذلك فالمحذور بحاله، لما تقرر أن طلب الشفاعة من الأموات شرك بدليل قوله - تعالى- :
} وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا { ] يونس:18 [ ، فسمى الله - تعالى- اتخاذ الشفعاء شركاً (2).
10- وقال:
يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
يقول الشيخ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب- رحمهم الله- تعقيباً على هذا البيت- :
(فتأمل ما في هذا البيت من الشرك:
منها: أنه نفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث إلا النبي r ، وليس ذلك إلا لله
وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو.
ومنها: أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه، وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك هو الشرك في الإلهية) (1).
وانتقد الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد ابن عبد الوهاب هذا البيت قائلاً:
(فعظم البوصيري النبي r بما يسخطه ويحزنه؛ فقد اشتد نكيره r عما هو دون ذلك كما لا يخفى على من له بصيرة في دينه؛ فقصر هذا الشاعر لياذه على المخلوق دون الخالق الذي لا يستحقه سواه؛ فإن اللياذ عبادة كالعياذ، وقد ذكر الله عن مؤمني الجن أنهم أنكروا استعاذة الإنس بهم بقوله: } وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً {
] الجن:6 [ ، أي طغياناً، واللياذ يكون لطلب الخير، والعياذ لدفع الشر؛ فهو سواء في الطلب والهرب) (2).
وقال العلامة محمد بن علي الشوكاني- رحمه الله - عن هذا البيت
فانظر كيف نفى كل ملاذ ما عدا عبد الله ورسوله r ، وغفل عن ذكر ربه ورب رسول الله r . إنا لله وإنا إليه راجعون) (3 ).
11 – وقال البوصيري:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
سؤاله منه أن يشفع له في
قوله: ولن يضيق رسول الله … إلخ، هذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوهم وهو الجاه والشفاعة عند الله، وذلك هو الشرك؛ وأيضاً فإن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله
فلا معنى لطلبها من غيره؛ فإن الله - تعالى - هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لا أن الشافع يشفع ابتدءاً) (
12 - وقال أيضاً:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من عطاء النبي r وإفضاله، والجود هو العطاء والإفضال؛ فمعنى
الكلام: أن الدنيا والآخرة له r ، والله - سبحانه وتعالى- يقول: } وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى { ] الليل:13 [ (2) .
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. في غاية السقوط والبطلان؛ فإن مضمون مقالته
أن الرسول r يعلم الغيب، وقد قال- سبحانه-: } قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون { ] النمل:65 [ وقال- عز وجل-: } وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ { ] الأنعام:59 [ ،والآيات في هذا كثيرة معلومة (
وأخيراً أدعو كل مسلم عَلِقَ بهذه القصيدة وولع بها أن يشتغل بما ينفع؛
فـإن حق النبي r إنما يكون بتصديقه فيما أخبر، واتباعه فيما شرع، ومحبته دون إفراط أو تفريط،
وأن يشتغلوا بسماع القرآن والسنة والتفقه فيهما؛ فإن البوصيري وأضرابه استبدلوا إنشاد وسماع هذه القصائد بسماع القرآن والعلم النافع، فوقعوا في مخالفات ظاهرة ومآخذ فاحشة.
وإن كان لا بد من قصائد ففي المدائح النبوية التي أنشدها شعراء الصحابة - رضي الله عنهم
- كحسان وكعب بن زهير ما يغني ويكفي.
اللهم صلّ على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد